في الرد على عريضة “جميعا من أجل الإفلات من العقاب”
De // NaBae 24
أمران لا ثالث لهما قادياني إلى كتابة هذا الرد على عريضة “أوقفوا المحاكمة الظالمة والاستثنائية التي يتعرض لها الأستاذ عبد العلي حامي الدين”، أولهما هو الشعور بالفراغ الذي قد يدفعك من حيث لا تدري ولا تريد أن تجادل معطي منجب صاحب المبادرة، ثانهما هو عنوان هذه العريضة نفسها.
فبخصوص الدافع الأول، فليعذرني منجب ومن معه، إن صارحتكم دون حساب لمشاعركم، أن ما يجمع هذا المقال وعريضتكم هو الفراغ الذي هو دائما قاتل، أو باللسان العامي “قلة مايدار”، فلأنني في عطلة وتخلصت من التزامات متعددة صادفت العريضة وأتممت قراءتها إمعانا في بلوغ المنتهى من الهراء وإصرارا على ملامسة قاع العبث، ولأن معطي منجب وفؤاد عبد المومني يمران بأيام كلها ضجر وملل من محاولات اصطياد أخطاء وهفوات الدولة ومؤسساتها، لم يجدا أمامهما، دائما من باب “قلة مايدار”، ووفقا لمنهجية “إبحث كما يبحث الزبال”، إلا قضية محاكمة حامي الدين.
لنفترض أن هذه الأسابيع شهدت استئناف محاكمة معطي منجب، هل كان تمت احتمال للدعوة إلى توقيع عريضة مناصرة لحامي الدين؟ أم أن الأولوية حينذاك ستكون لملف منجب ولا شيء غيره. وليعلم حامي الدين ومن ناصره بحسن نية أن العريضة كانت فقط عجلة احتياط، لان منجب كالطبيعة يخشى الفراغ.
عنوان العريضة كفيل بدفع كل ذا عقل راجح إلى الاصطفاف ضدها، فماذا إن كان موضوع العريضة هو “نشطاء يطالبون بالحرص على توفير ضمانات المحاكمة العادلة لحامي الدين”، فلن أكون أبدا في موقع الرد على العريضة، بل سأكون بدون شك من مؤيديها والموقعين عليها وإن قل عددهم كحال هاته العريضة.
أيدري أصحاب المبادرة أن المرادف الدقيق لعنوان ومثن عريضتهم ليس شيئا آخر غير “وقع معنا من أجل إفلات كامل من العقاب”، وليست شيئا آخر سوى لأنني ناشط “حقوقي” (بين مزدوجتين طبعا) أو فاعل سياسي وحزبي وجب أن أكون فوق القانون وألا تمتد إلي أيادي المساءلة القضائية أو الإدارية وإن ارتكبت جريمة قتل بدافع سياسي.
هل يعلم الموقعون على العريضة أن التكييف القانوني للمنسوب لعبد العالي حامي الدين وفقا لقانون “الجريمة والعقاب” منذ سنة 2003 هو المشاركة في عمل إرهابي، لأن الجريمة التي أودت بحياة آيت الجيد محمد ين عيسى تحكمت فيها دوافع سياسية خالصة من التخطيط إلى التنفيذ.
فكما طريق جهنم مفروش بالنوايا الحسنة، فهذه العريضة بشكل أكيد وقعها البعض بوازع التعاطف البريء، إما لكونهم لم يطلعوا كفاية على حيثيات ومجريات المحاكمة أو لأن زادهم القانوني لم يسعفهم لفهم الجوانب المسطرية والقضائية للقضية فكانوا بذلك ضحية تدليس وتغرير من طرف منجب وعبد المومني وآخرون.
ما لا يعلمه الموقعون على العريضة والملتحقين بها أن مبادرة منجب هاته لا تخرج عن منطق “وقف معايا نوقف معاك”، فهي استئجار للمواقف وتسبيق سيطالب منجب باسترداده يوما ما، خاصة وأن قضية متابعة منجب حول المنسوب إليه تشبه قضية حامي الدين من حيث ضعف دفوعاتها القانونية وفراغها وتهافتها، وفي حالة الإدانة سيدعو منجب إلى استرداد كل ما انفقه من مواقف على المتساقطين من صفوف اليسار والمحافظين.
يقال أن الحياة مواقف، غير أنها عند منجب ومن معه، بورصة مواقف أو هي مزاد مواقف، قد لا أجازف إن جزمت أن قبل المحاكمة تمت عريضتان قيد الإعداد، إحداهما لمناصرة حامي الدين في حالة الإدانة والأخرى للطالبة بدماء الشهيد آيت الجيد في حالة التبرئة.
كل ما تقوم به الدولة تقف خلفها أهداف سياسية، إلا ما يقوم به منجب وعبد المومني، فحينذاك تتحكم في مبادراتهما تكتونية الصفائح ربما، الأكيد أن هذه الخلفيات كلها لا تهم، فالاعتبار أولا وأخير للعوائد المالية لهذه الأحداث والقضايا، فقد تكون سياسية حسب البعض وقضائية قانونية أو حقوقية عند البعض الآخر، إلا أنها عند منجب ومن معه فهي دائما مالية وبورصوية.
أليست المعركة الآن قضائية، وجب فيها على كل من حصلت له قناعة ببراءة حامي الدين من المنسوب إليه أن يخوضها بأدواتها التي هي حصرا قانونية ولا شيء سواها، كيف يستقيم الرأي ونقيضه، بالدعوة إلى تبرئة حامي الدين وفي ذات الوقت ممارسة الضغط خارج قواعد عمل هيئة الدفاع.
إن هذا التسييس المفرط للقضية يكشف عن أن الأسس القانونية لخوض المعركة القضائية إلى منتهاها ينطوي على ضعف كبير، وينم في المقابل عن وجاهة البناء القانوني لدفاع الشهيد آيت الجيد، ولا تخرج هذه المبادرة عن محاولة الضغط على القضاء للتأثير عليه ودفعه لاستصدار حكم مخالف لقناعاته القانونية، كما هو ديدنهم دائما إثارة تعاطف البسطاء وخوض إضرابات زائفة عن الطعام واستجداء مواقف منظمات أجنبية.
ففضلا عن الاعتبارات السياسية الصريحة للعريضة، يمكن التوقف عند اعتبارين قانونيين قد لا ينطليان على الهيئة القضائية، ولكنهما قد يغررا ببعض البسطاء من ذوي النوايا الحسنة كما هو حالة عدد من الأسماء التي وقعت على هذه العريضة، وهما: أولا، القول بسبقية البت في القضية، من منطلق مبدأ “عدم جواز محاكمة المتهم على ذات الفعل مرتين”، الذي نقر به جميعا كمبدأ عام، لكن هل يقوى أصحاب الدفع هذا على خوض النقاش القانوني حول تفاصيله؟
ليعلم أصحاب العريضة أن المنطق القانوني يتيح دائما مداخل التفاضل بين المبادئ العامة في حالة تعارضها، وذلك من باب أن المبدأ الأكثر أولوية هو عدم الإفلات من العقاب سواء بالمحاكمة أو التسليم، وفي ضوئه تفهم باقي المبادئ وتفسر، لهذا أوردت الأنظمة القانونية والقضائية الوطنية والدولية استثناءات على قاعدة سبقية البت، ليس دائما في اتجاه تشديد العقوبة ولكن قد يكون الامر بدافع التخفيف أو التبرئة، أي أن إعادة المحاكمة قد تكون لصالح المتهم. وكشفت ممارسات قضائية في عدد من الدول عن حالات كان فيها القضاء منهارا أو عاجزا أو متواطئا وأجرى تبعا لذلك محاكمات صورية لمتهمين بجرائم سياسية، وتكون إعادة المحاكمة في حكم الجواز إذا برزت حقائق جديدة من شأنها التأثير في عمق التكييف القانوني للمحاكمة الأولى… كل هذه السوابق القضائية وغيرها التي لا يتسع المجال للخوض فيها، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن سبقية البت ليس مبدأ مطلقا لا تتسرب إليه الاستثناءات سواء في العمل القضائي الدولي أو الممارسات القضائية في الدول الديمقراطية.
فقبل التوقيع على العريضة يكفيك قليل الاطلاع على التهم المنسوبة لحامي الدين ومقارنتها مع المحاكمة السابقة وسيتبن أننا أمام تكييف قانوني مختلف تماما، من حيث التهم المنسوبة لحامي الدين، ومن حيث الوقائع (مكان وزمان ارتكاب الجريمة)، ومن حيث التصريحات السابقة للمتهم (حوكم على أساس أنه طالب قاعدي).
أما بخصوص المقرر التحكيمي لهيئة الإنصاف والمصالحة، فهذه الأخيرة أولا ليست هيئة قضائية ولم تكن تقم بعمل قضائي، فهي هيئة للمصالحة، وثانيا، فمقرراتها لا تشكل أساسا للإدانة أو التبرئة، فحدود تأويلها مرسوم بعناية، ولا يمكن اعتبار توظيف هذا المقرر في دفوعات حامي الدين وكذلك إيراده في هذه العريضة إلا استغلالا مسرفا ومتعسفا ومقصودا وبسوء نية لرصيد هيئة وطنية مشهود بعملها وطنيا ودوليا، لأن التعويض الذي تلقاه حامي الدين ببساطة مقابل هذا المقرر التحكيمي لم يكن ناتجا عن قناعة راسخة بل فقط عن مبدإ قانوني قار وهو أن الشك يؤول لصالح المتهم، وأن الهيئات المعنية في الدولة لم تتقدم بما من شانه أن ينفي ادعاءات حامي الدين بخصوص الاعتقال التعسفي. وقد يكون الأمر متفهما ليس فقط في حالة حامي الدين بل في حالات أخرى كثيرة، هناك أطراف تلقت تعويضات غير مستحقة بشكل أكيد، لأن هاجس الدولة آنذاك كان هو تمكين الهيئة من شروط عمل خالية من أي تشويش قد يشكل ضغطا، بل صدرت مقررات كثيرة لتعويض ضحايا أحداث لم تكن فيها الدولة طرفا، وهذا الأمر مشهود في معظم تجارب العدالة الانتقالية على المستوى العالمي، لأن عملها يتحكم فيه هاجس المصالحة التاريخية وإقرار ضمانات عدم التكرار وليس إجراء تحقيقات مفصلة بشأن ملابسات كل حالة حالة.
من الخفة السياسية استباق الأحداث في قضايا شائكة، يلزمها التأني وشيء من التؤدة التي يفتقدها الطابور الخامس. إن إعادة فتح ملف التحقيق في ملابسات استشهاد آيت الجيد، هي فرصة لرفاق الشهيد للمطالبة بالكشف الكامل عن الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، وليس التشويش على المسطرة القضائية. وهي مناسبة للإشادة بمواقف طيف واسع من الحقوقيين والنشطاء كبلاغ الجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومواقف نشطاء حزب التقدم والاشتراكية ورسالة تحدي التي وجهها المحامي محمد حداش لمنجب وعبد المومني. ولا شك أن جدية ومعقولية ووجاهة بل واجب إعادة فتح ملف استشهاد آيت الجيد هو ما دفع أغلب مناضلي حزب العدالة والتنمية إلى التزام الصمت، ودفع الامانة العامة لحزب العدالة والتنمية إلى التعبير عن تضامنها مع حامي الدين بشكل حذر ومحسوب، وإن كان بلاغها طبعا لا يخرج عن منطق قد نتفهمه في مثل هذه القضايا وهو ناصر أخاك ظالما أو مظلوما.
ما يجب على المعطي منجب أن يفهمه هو أن الصمت أحيانا موقف، بل هو أكثر المواقف بيانا ووضوحا. أما متلازمة نصب العداء للدولة والاصطفاف ضد المؤسسات وإن كان الطرف الآخر مجرما شارك في تصفية جسدية بدافع سياسي، لا يقدم ولا يؤخر في إعادة تركيب المشهد وفقا للوقائع التي خضعت للتحقيق والتدقيق القضائي للكشف عن حقيقة ما جرى، والدفع في اتجاه مواصلة عمل هيئة الإنصاف والمصالحة للكشف عن الحقيقة الكاملة لمجهولي المصير التي بشكل أكيد لا تهم الطابور الخامس في شيء.