✍️✍️✍️معركة المخانيز: زمن العبث (الحلقة الأولى)
كان يا ما كان، في زمن الرجال الذين صنعوا المجد بالحكمة، وفي عهد الرشاد، كانت المعارك تحمل شرف المعاني وسمو الغايات. كانت المواجهة تتم بأدوات الفكر والبرهان، حيث الخلاف طريق للإصلاح، والحوار جسراً للبناء. لكن دورة الزمن أبت إلا أن تنقلنا إلى مرحلة مختلفة تماماً، مرحلة غابت فيها القيم وحلّ محلها العبث. في هذا الزمن الجديد، زمن المخانيز، أصبح الصخب عنواناً، وافتقدت المعارك لمعانيها النبيلة.
في زمن المخانيز، لم يعد العقل هو الحَكم، ولم تعد الحجج تُستقى من منطق رصين. حلّ مكان ذلك خطاب غوغائي، يملؤه الصراخ وتزييف الحقائق، يقوده أشخاص لا يحملون مشروعاً ولا يرفعون قضية، بل يقتاتون على الفوضى وينتعشون وسط الترهات. هؤلاء لا يكتفون بالظهور كأبطال زائفين على مواقع التواصل الاجتماعي، بل تجاوزوا ذلك إلى محاولات جريئة لا تخلو من العبث، كرفع عرائض تطالب بإقالة وزراء، أو مخاطبة جلالة الملك عبر منصات يوتيوب، وكأنهم يتجاهلون تماماً ما بُني على مدى عقود من مؤسسات دستورية وقواعد قانونية.
إن المشهد بات أقرب إلى مسرحية عبثية، حيث يجتمع هؤلاء على خطاب يستبيح كل ضابط قانوني وأخلاقي. أفعالهم ليست إلا استعراضاً للذات، ومحاولات مستميتة لإثارة الانتباه، دون أن تحمل في جوهرها أي مشروع حقيقي للإصلاح. كيف يمكن لعاقل أن يقبل بأن يتحول مقام الملكية، بما لها من رمزية سامية في وجدان المغاربة، إلى موضوع استغلال شعبوي عبر فيديوهات غوغائية تخاطب الملك وكأنه جهة إدارية؟
في هذا الزمن العبثي، نجد أنفسنا أمام واقع جديد، حيث تنقلب الموازين وتغيب المسؤولية. أشخاصٌ يتسترون وراء شعارات براقة، يدّعون محاربة الفساد فيما لا تختلف ممارساتهم عن الفساد نفسه. بل وصل بهم الأمر إلى استغلال القضايا العامة كوسيلة لتحقيق مكاسب ضيقة، وهم في ذلك لا يكتفون بالسب والشتم والتشهير، بل يلجأون إلى القضاء لوضع شكايات كيدية ضد كل من يكشف زيفهم.
إن ما نشهده اليوم ليس معركة فكرية ولا مواجهة من أجل القيم، بل هو انحراف عن مسار البناء نحو هاوية من العبث. إنها لحظة تستوجب التوقف والتأمل، لأن التصدي لهذا التيار العبثي لا يكون بالصمت، بل بالمواجهة الحازمة التي تعتمد العقل أداة، والحقيقة سلاحاً.
في الحلقة الأولى من هذه الحكاية، نبدأ بوضع السؤال الذي سيلازمنا: هل ما نراه امتداد لمعركة الرجال الذين صنعوا التاريخ، أم انحدار نحو زمن المخانيز الذي يعبث بالحاضر؟ الإجابة عن هذا السؤال لن تكون سهلة، لكنها ضرورية. ولأن الحكاية لم تنتهِ بعد، فإن القادم قد يحمل المزيد مما يستحق أن يُقال….
نجيبة جلال