المتقاعدون: مواطنون وليسوا مَوْتَى يمشُون على الأرض
بقلم : صلاح بوسريف
المتقاعدون ليسوا موتى يمشون على الأرض، وليس قطع غيار انتهت صلاحيتها، ولا هُم متلاشيات مرميَّة في سوق الخردوات، بل هُم العُمَّال، والموظفون، والأطباء، والمهندسون، والأساتذة، ورجال الشرطة والأمن، والجنود، وغيرهم ممن بلغوا، فقط، سن التَّقاعُد الوظيفي، وليس سن العجز، والعطب والفناء، أو العدم.
في الدول الغربيَّة، ونحن دائماً ما نُدْفَع إلى مثل هذه المُقارنات التي هي واقع لا يمكن تفاديه أو الإشاحة عنه، المُتقاعد يحظى بِكُل حقوق المواطن العامل والموظف، من أخذ مكان المتقاعد وناب عنه في العمل، له اعتبار في المستشفيات، وفي الحافلات، وفي القطارات، وفي الأسواق الكبرى، لِما يتمتع به من أثمان تفضيلية، ومن أولوياتٍ، والعجزة من المُتقاعدين، لهُم مآوي فيها كُلّ وسائل الرعاية والاهتمام، وثمة من الدول، لرفع العزلة على هؤلاء، وضعوا معهم الأطفال الأيتام أو المتخلّى عنهم، واكتشفوا أنَّ جو المآوي تغيَّر وصارت فيه حياة للكبار والصغار، في جوّ عائلي عجيب وفريد، استأنس فيه الكبار بالصغار، كما استأنس الصغار فيه بالكبار، ورفعُوا اليُتْم والعزلة عن الاثنين، بهذا النوع من الخيال الخلاق والمُفيد.
راتب المُتقاعد يكفيه لسدّ أعطابه التي جرَّها معه من الشُّغْل، وفي التعليم، ثمَّة، في دول مجاورة، تعويضاتٍ عن أعطاب المهنة، لما تتركُه في الأستاذ من أمراض ومخلفات نفسية، والمُتقاعد، اجتماعيّاً، يحضى باهتمام الجميع، وبانتباه الجميع، وباحترام الجميع، والدولة لا تتوانى في الحفاظ على كرامة، وعلى أنَفَة المُتقاعِد، ولا تعتبره شَبَحاً يمشي على الأرض، أو تنتظر متى يختفي ويتلاشى، لترتاح منه، ومن راتبه الذي هو ما جمعه من مال خلال عقود من الكدح والعمل.
عندنا، وهذا ما يجري في كثير من البلاد العربيَّة التي البؤس فيها واحد، والظلم فيها واحد، والتمييز فيها واحد، المُتقاعِد، سُرِقَ مرتين، مرَّة حين أدَّى الضريبة على الراتِب وهو يعمل، ومرَّةً حين صار يؤدِّيها على ما أدَّى عليه الضريبة من هذا الراتب نفسه، وهذه من أكبر السرقات التي لا يقبلها العقل، ولا يقبلها الحق، ولا الأخلاق وقِيَم العمران والاجتماع، كما أنَّ رواتب المُتقاعدين تبقى هي نفسها، لا تتغيَّر، بل تنقص، بحكم الزيادات في الأسعار، وفي أثمان الدواء، وفي المستشفيات، وفي وسائل النقل، وفي المواد الاستهلاكية، ما يعني أن راتب المُتقاعد، بدل أن يزيدَ، ينقص، ويتضاءل، والدولة، ومعها الحكومة، لا ترى أنَّ هناك بشراً في البلاد، كانوا هُم الدم الذي يجري في عُروق الوظائف، والمعامل، والإدارات، والمؤسسات، عامَّة كانت أو خاصَّة، وهُم من كانوا الثروة الضريبيَّة لخزائن البلاد، ومن كانوا الاستثمار، والاستمرار، فكيف يمكن للدولة، ومعها الحكومات المُتعاقبة على السلطة، أن تتنكَّر لهؤلاء، وتتركهم ينتظرون القضاء والقدر، وأن يحظى رئيس وزراء سابق لم يقدم للبلاد ما قدَّمَه هؤلاء، براتب فاق رواتب الأطر والكوادر، مع غيره من الامتيازات، وهو من كان من أسباب ما يجري على المتقاعدين من ظلم وحيف واستغلال !؟
البلاد التي تحترم مواطنيها، وتعطي معنًى للمواطنة، هي البلاد التي تكون عينُها على هذه الشرائح من المجتمع، وعلى صحتهم، وعلى حياتهم، وعلى مأكلهم، وأسباب معاشهم، لا أن تتركُهَم يعيشون كما لو أنهم لم يعملوا، ويتحوَّل الآلاف منهم إلى عاطلين برواتب لا تكفي في سَدِّ أسبوع أو أسبوعين من الشهر، دون الحديث عن ماذا يستهلكون، وكيف يُدِيرون هُزال، وسَخَف المال هذا الذي بقي لهم من سنوات العمل والكدّ الشَّقاء.
المُتقاعد، ياااا هؤلاء، هو مواطن، وهو من علينا أن نصون وجودَه، وأن نصون هشاشتَه، وأن نصون تعبَه، وشيخوخته، فهو يتقدَّم في العمر، وحين يكون الراتب هزيلاً، هشّاً، سخيفاً، فهذا يزيد من مُعاناة هذا المواطن، ويحس بظلم يجري عليه من بلاده، من حُكّامها، ممن لا يرون فيه سوى قبر يمشي على الأرض، إلى أن يحين لَـحْدُه، وهذا، لعمري، تعبير عن نكران الجميل، وعن جحود الدولة تُجاة مواطنيها، ليس هؤلاء من تقاعدوا، بل ومن يعملون، فالمصير واحد، الآن هؤلاء، وبعد أنتم.
منقول عن جريدة المساء
